9
الإشتباك المسلّح مع اليهود بالمدينة :
1 ـ إجلاء بني قينقاع من المدينة :
قد وقفت فيما سبق على المناظرات و الإجتجاجات التي دارت رحاها بين النبيّ و اليهود ، و اتّضح لك إنّها لم تكن من اليهود بغرض كشف الحقيقة و إنّما كانت مماراة منهم حتّى يشوّهوا الحقيقة على طلاّبها و يضعوا العراقيل في وجه إنتشار الإسلام و تعاظم قدرة المسلمين ، و قد كان النبيّ الأكرم صابراً على إيذائهم ، ولكنّهم لمّا بلغت جرأتهم إلى حدّ هتكوا عرض امرأة مسلمة و قتلوا رجلاً من المسلمين في سوقهم ، قام النبيّ في وجههم فرفض الميثاق الذي عقدوه بينهم و بين النبيّ لأنّهم بأعمالهم الإجرامية نقضوا بنوده و مضامينه فلم يبقوا له حرمة ، و لكن النبيّ الأكرم أخذ كل طائفة من اليهود بجرمها و لم يأخذ جميع طوائف اليهود بجرم واحدة منها.
فأجلى بني قينقاع لأجل ذينك العملين ( هتك حرمة المرأة المسلمة و قتل مسلم ) و أبقى الطائفتين الاُخريين على حالهما ، فلمّا همّ بنو النضير بقتل النبيّ الأكرم ، أجلاهم بمؤامرتهم و أبقى بني قريظة على حالها في المدينة إلى أن إرتكبت الثالثة جريمة كبيرة ، فجازاهم بعملهم حسبما يوافيك بيانه.
و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبيّ الأكرم كان يحترم العهود والمواثيق المبرمة بينه و بين سائر الملل و النحل و أنّه لو لم تنقض اليهود عهودها ومواثيقها لما خطا النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خطوة واحدة في طريق
________________________________________
(290)
الحرب ضدّهم ، و لأجل ذلك يجب علينا دراسة العوامل التي حفّزت النبي إلى إتّخاذ موقف حازم و صارم في وجه اليهود القاطنين في المدينة ، و قبل إيضاحها نذكر لك نص الميثاق الذي عقده النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معهم إبّان نزوله المدينة.
روى القمّي في تفسيره : و جاءته اليهود ـ قريظة و النضير و قينقاع ـ فقالوا : يامحمّد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه و أنّي الذي تجدونني مكتوباً في التوراة و الذي أخبركم به علماؤكم أنّ مخرجي بمكة و مهاجري في هذه الحرّة ، و أخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال : « تركت الخمر والخمير و جئت إلى البؤس و التمور لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا ، و هو آخر الأنبياء و أفضلهم ، يركب الحمار و يلبس الشملة و يجتزي بالكسرة ، في عينيه حمرة و بين كتفيه خاتم النبوّة ، و يضع سيفه على عاتقه لايبالي من لاقى ، و هو الضحوك القتال يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر » فقالوا له : قدسمعنا ما تقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لانكون لك و لاعليك ولانعين عليك أحداً ولانتعرّض لأحد من أصحابك و لاتتعرّض لنا و لا لأحد من أصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك و أمر قومك ، فأجابهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ذلك و كتب بينهم كتاباً : ألاّ يعينوا على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و لا على أحد من أصحابه بلسان و لايد و لابسلاح و لابكراع في السرّ والعلانية ، لابليل ولابنهار ، اللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حِلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم و نسائهم ، و أخذ أموالهم. و كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدّة ، و كان الذي تولّى أمر بني النضير حيّي بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اُخوته ( جديّ بن أخطب و أبوياسر بن أخطب ) : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة و الذي يبشّرنا به علماؤنا و لاأزال له عدوّاً لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق ، وصارت في ولد إسماعيل ، و لانكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً.
و كان الذي ولي أمر قريضة كعب بن أسد ، و الذي ولي أمر بني قينقاع مخيريق و كان أكثرهم مالاً و حدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ؟
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس
فهلمّوا نؤمن به و نكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (1).
هذا هو نص الميثاق ، و سنوافيك في هذا البحث و ما يتلوه إنّهم كيف ضربوا به عرض الجدار خصوصاً بعد ما بلغهم إنتصار المسلمين على قريش في غزوة بدر فانتابهم الهلع و الخوف ، و ترقّبوا الخطر المحدق بهم ، و قد بلغ النبيَّ أخبار بني قينقاع ، و ما أخذوا يتفوّهون به ضدّه ، فلأجل إتمام الحجة جمعهم رسول اللّه في سوق بني قينقاع بعد نزوله عن بدر ، فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه بمثل ما أصاب به قريشاً ، فقالوا له : يا محمّد لايغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً (2) لايعرفون القتال ، إنّك و اللّه لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن الناس وإنّك لنتلقى مثلنا ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَ اُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ العَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِى ذِلِكَ لَعِبْرَةً لاُِولِى الأَبْصَارِ ) ( آل عمران/12و13 ) (3).
و بين ما هم عليه من إظهار العداوة و نقض العهد ، جاءت امرأة نزيعة (4) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع ، و جلست عند صائغ في حُليّ لها ، فجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها و لاتشعر ، فخلّى (5) درعها إلى ظهرها بشوكة ، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها ، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع فتحايشوا ، فقتلوا الرّجل و نبذوا العهد إلى النبيّ و تحصّنوا في حصنهم (6).
________________________________________
1 ـ البحار ج19 ص110 ـ 111 ( طبع بيروت ).
2 ـ الأغمار جمع الغمر و هو الذي لم يجرّب الاُمور.
3 ـ السيرة النبويّة ج1 ص552 ، مجمع البيان ج2 ص 706 ، المغازي للواقدي ج1 ص176.
4 ـ المرأة التي تزوّجت في غير عشيرتها.
5 ـ أي جمع بين طرفي الشيء.
6 ـ المغازي للواقديفهلمّوا نؤمن به و نكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (1).
هذا هو نص الميثاق ، و سنوافيك في هذا البحث و ما يتلوه إنّهم كيف ضربوا به عرض الجدار خصوصاً بعد ما بلغهم إنتصار المسلمين على قريش في غزوة بدر فانتابهم الهلع و الخوف ، و ترقّبوا الخطر المحدق بهم ، و قد بلغ النبيَّ أخبار بني قينقاع ، و ما أخذوا يتفوّهون به ضدّه ، فلأجل إتمام الحجة جمعهم رسول اللّه في سوق بني قينقاع بعد نزوله عن بدر ، فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه بمثل ما أصاب به قريشاً ، فقالوا له : يا محمّد لايغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً (2) لايعرفون القتال ، إنّك و اللّه لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن الناس وإنّك لنتلقى مثلنا ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَ اُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ العَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِى ذِلِكَ لَعِبْرَةً لاُِولِى الأَبْصَارِ ) ( آل عمران/12و13 ) (3).
و بين ما هم عليه من إظهار العداوة و نقض العهد ، جاءت امرأة نزيعة (4) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع ، و جلست عند صائغ في حُليّ لها ، فجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها و لاتشعر ، فخلّى (5) درعها إلى ظهرها بشوكة ، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها ، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع فتحايشوا ، فقتلوا الرّجل و نبذوا العهد إلى النبيّ و تحصّنوا في حصنهم (6).
________________________________________
1 ـ البحار ج19 ص110 ـ 111 ( طبع بيروت ).
2 ـ الأغمار جمع الغمر و هو الذي لم يجرّب الاُمور.
3 ـ السيرة النبويّة ج1 ص552 ، مجمع البيان ج2 ص 706 ، المغازي للواقدي ج1 ص176.
4 ـ المرأة التي تزوّجت في غير عشيرتها.
5 ـ أي جمع بين طرفي الشيء.
6 ـ المغازي للواقدي ج1 ص1(292)
فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فحاصرهم رسول اللّه حتّى نزلوا على حكمه.
روى الواقدي : لمّا رجع ( رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) من بدر حسدوه فأظهروا الغشّ ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) بهذه الآية : ( وَ أَمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم خِيَانَة فَأْنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سِوَاء إِنَّ اللّهَ لاَيُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال/58 ).
قال : فلمّا فرغ جبرئيل قال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنا أخافهم. فسار رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الآية حتّى نزلوا على حكمه و لرسول اللّه أموالهم ، و لهم الذرّية و النساء (1).
فقام عبد اللّه بن اُبي بن سلول رئيس المنافقين في المدينة بالشفاعة لهم فقال : يا محمّد أحسن في موالي ، و كانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليه رسول اللّه ، فقال : يامحمّد ، أحسن في موالي ، فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درع رسول اللّه ، فقال له رسول اللّه : أرسلني ، و غضب رسول اللّه حتّى رأوا لوجهه ظللاً ، ثمّ قال : ويحك أرسلني ، قال : لا و اللّه لاأرسلك حتّى تحسن في موالي ، أربعمائة حاسر (2) وثلاث مائة دارع ، قد منعوني من الأحمر و الأسود ، تحصدهم في غداة واحدة إنّي واللّه أمرؤٌ أخشى الدوائر ، فقال رسول اللّه : هم لك ، فاستعمل رسول اللّه على المدينة في محاصرته إيّاهم بشير بن عبد المنذر ، و كانت محاصرته إيّاهم خمس عشرة ليلة.
و كان لعبادة بن الصامت مثل الحلف الذي كان لهم من عبد اللّه بن اُبي ، فجاء عبادة بن الصامت و قال : يا رسول اللّه أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين ، و أبرأُ من حلف هؤلاء الكفّار و ولايتهم ، و في تلك القصّة نزلت الآيات التالية :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَتَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَ النَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَيَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ
________________________________________
1 ـ مغازي الواقدي ج1 ص180.
2 ـ الحاسر الذي لادرع له و يقابله الدارع.
________________________________________
(293)
مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهُمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَه بِالفَتْحِ أَوْ أَمْر مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) ( المائدة/51 ـ 53 ).
فلمّا أصرّ ابن اُبي فيهم تركهم رسول اللّه و أمر بهم أن يجلوا من المدينة.
و روى الواقدي : كان ابن اُبيّ أمرهم أن يتحصّنوا و زعم أنّه سيدخل معهم ، فخذلهم و لم يدخل معهم ، و لزموا حصنهم فما رموا بسهم ، و لاقاتلوا حتّى نزلوا على صلح رسول اللّه و حكمه ، و أموالهم لرسول اللّه ، فلمّا نزلوا و فتحوا حصنهم ، كان محمّد بن مسلمة هو الذي أجلاهم و قبض أموالهم ، و أمر رسول عبادة بن الصامت أن يجليهم ، فقالت قينقاع ، يا أبا الوليد نحن مواليك فعلت هذا بنا ؟
قال لهم عبادة لمّا حاربتم جئت إلى رسول اللّه فقلت : يا رسول اللّه إنّي أبراُ إليك منهم و من حلفهم ، و كان ابن اُبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف ، فقال عبداللّه بن اُبي : تبرّأت من حلف مواليك ، فقال عبادة : أبا الحبّاب تغيّرت القلوب و محي الإسلام العهود ، فخرجوا إلى الشام و لحقوا بإذرعات (1) ثمّ هلكوا (2).
________________________________________
1 ـ بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقا و عمان « معجم البلدان ج1 ص162 ).
2 ـ السيرة النبويّة ج1 ص47 ـ 49 ، المغازي للواقدي ج1 ص176 ـ 180.
[quote]